عن أكتوبر

 في احد الوثائقيات التي شاهدتها عن الحرب العالمية الثانية من فترة ذكر المعلق أن الجنود الألمان الذين توجهوا لغزو روسيا في السنة الثانية من الحرب قد مات جزء كبير منهم في أوروبا الغربية في الشتاء القارص. ولم يكن السبب هو الطاعون مثلا أو أنهم تلقوا هزيمة ساحقة من السوفييت. بل بسبب إصابتهم بتلوث في الدم بسبب اصابتهم بتقرحات جلدية ملوثة في مؤخراتهم بسبب عدم قدرتهم على غسل مؤخراتهم في الشتاء القارص بعد التغوط.
هذا سبب كان كافيا جدا لسقوط جيش من كان مكلف بغزو روسيا قبل أن يطلق رصاصة واحدة. وبغض النظر عن أنني أمقت الألمان بسبب هذه الحرب إلا أننا كبشر متساوون في مشاعر الخوف وحبنا للحياة وهربنا من كل ما قد يعرضنا للأذى وأنا متأكد أن التجيد الإجباري كان وقود الحرب العالمية الثانية في كل الدول المتصارعة.

الحديث عن الحروب لا يعني فقط تلك اللحظات التي يُقتل فيها المحارب أو يقتُل ;  الحديث عن الحرب هو حديث عن سنوات مهدرة وأحلام ضائعة وشباب يتم استخدامهم كماكينات قتل ويتم برمجتها على هذا الأساس إحاطة هذا كله بمزيج من الشعارات عن الوطنية والرجولة والنظامية.. إنه حديث عن رائحة عرق بشعة وملابس تدريب غاية في القذارة وضغط نفسي سئ وبعد عن الأهل والصديق والحبيبة..
يحكي لي أبي عن أنه قضى خمس سنوات ونصف في القوات المسلحة المصرية منذ العام 1969 حتى منتصف 1974 وقد كان حاله المالية معقولة حيث مرتبه من وظيفته الحكومية يصله كل أول شهر ويتلقى راتب بسيط من القوات المسلحة كمجند. وكان الجنود الغير موظفون في الدولة يتلقون راتب من القوات المسلحة أكبر من هؤلاء الموظين. كانت أوامر الرئيس السادات أن يتم تقليل العبء المادي على جميع المجندين.
لكن النقود ليست كل شئ. أذكر أول يوم لي في كلية ضباط الاحتياط وكيف أنني انتظرت ساعة ونصف في طابور أمام كابينة تليفون أرضي يتيمة لأاحظى بمكالمة مدتها دقيقتين مع أبي وأمي أنهارت فيها دموعي بشكل مؤلم كلما تذكرته. أذكر أنني بالكاد استطعت حضور حفل زواج أخي ولم أكن لأستطيع حضوره لولا مكالمة من ضابط برتبة كبيرة لأحد المسؤولين بالكلية تمت بمعجزة ما ..
لا أتكلم عن ضحايا العمليات المصابين بعاهات ولا تغنيهم التعويضات المادية مهما كبرت عن إحساسهم بالعجز والضعف.
لا أحد يتخيل كواليس الحروب التي يعيشها الجنود والضباط معا. فالحرب في اعتقادي هي ما يظهر على خشبة المسرح لكن خلف خشبة المسرح وتحتها تجري أشياء كثيرة مؤلمة ولا أحد يرغب في تجربتها والحديث عن البطولة في الحرب هو من الأشياء التي لا يستوعبها عقلي وأنا أدرك تماما كيف تتم عملية التجييش وكيف يتم تحميس الجنود وكيف تم تحميس وتشجيع الجنود النازيين كي يسيطروا على العالم وهم لا يدركون أنهم مجرد أدوات وأرقام على الورق.
كيف لا وأنا قد عاهدت نفسي على ألا أعاهد نفسي على شئ وقد تيقنت أن اللايقين هو اليقين بحد ذاته فكيف أعرض سلامتي لخطر وأنا قد أندم على فعلي لهذا في اليوم التالي.

لكن الحقيقة أن من حارب في أكتوبر كان لديه يقين بأن مايقوم به هو الصواب وأنا كذلك حسمت أمري أن ماتم كان الصواب. لكن الشجاعة لأن تشارك في فعل الصواب وتعطي من عمرك خمس سنوات أو أكثر شئ صعب للغاية. 
أكتب هذا بالأساس لأذكر بأن الأحياء ليسوا أقل قدرا من الأموات وأن النقود لا تغني عن شئ لاتشتريه بالنقود. النقود تستطيع أن تحضر لك الآيسكريم في قلب الصحراء لكنها لن تعيد لك محبوبتك التي انتظرتك خمس سنوات ثم نركتك بعد أن ملت منك ومن الحرب. لن تستطيع النقود أن تعطيك راحة البال على أهلك ولا راحة بال أهلك عليك.

أكتب هذا لأقول أن الحرب ثقيلة ومنهكة ومؤلمة وقذرة وأن لا أحد يتحملها ولا أحد يريدها وأنها ليست نزهة وأن لا أحد آمن على نفسه من ويلات الحرب مهما بلغت قوته.

عن التنظير والعمل الميداني

تجاربي ومشاهداتي في الفترة الأخيرة دفعتني للتفكير في شأن البشر داخل التنظيمات والمؤسسات .. لاحظت -وربما أنا آخر من يعلم- أن العمل المؤسسي يمكن تقسيمه على نوعين من البشر المنظرين والمنفذين ..
هؤلاء الذين يجلسون على مكاتب ويقابلون شخصا أو شخصين في اليوم وهؤلاء الذين يجلسون على مكاتب ويقابلون عشرات الأشخاص في يوم واحد وهؤلاء الذين لا يجلسون على مكاتب ويمضون ساعات عملهم وسط الناس في الميدان ..
العلاقة واضحة أنه كلما ارتقيت في سلم الوظائف التنظيرية/الإدارية وأصبحت مقابلاتك محدودة مع البشر وأصبح لك جيش من السكرتارية وربما مسؤول يتلقى عنك سباب الناس كلما أصبحت سميك الجلد وربما اصبحت عكس ذلك ذو ذهن صاف وقادر على التبصر في الأمور والخروق بأفكار واستراتيجيات أفضل.. لكن في الأغلب والمشترك بين الاثنان أنك ستكون شخص أكثر هدوءا على الأرجح وأكثر إبداعية وإحساسا بقواعد البروتوكول والإيتيكيت ..
في المقابل لنفترض أنك مهندس مواقع إنشاء وتعمل تحت الشمس الحارقة يوميا فإنني أتوقع أن تكون شخص عصبي إنفعالي لا تبالي بالأمور البسيطة في نظرك وربما تكون معتاد على التجاوزات الكلامية واللفظية .. 
هذه القسوة والغباوة التي لم أكن معتادا عليها كشخص طيب القلب يفضل أن يتحمل المشقة على أن يوجه أحدهم لأمر بصيغة الأمر /التخويف/ استغلال السلطة المخولة له -في الغالب سلطة غير رسمية- في تمرير أوامره التي هي في الغالب تكون لصالح العمل والمؤسسة والصواب ..
ربما هذا هو الثمن الذي ندفعه لقاء رفاهيتنا أو ما نراه راحتنا أو ما قد يحسدنا عليه الآخرون من راحة قد لا نراها نحن.
لكني في النهاية كشخص يعمل -ينتمي ويحب أن ينتمي إن لم يكن كذلك- لهؤلاء المنظرين عديمي النفع أحتفظ بحقي في كراهية من يدعون علينا فضلا .. ربما موهبتهم تتجلى تحت أشعة الشمس الحارقة وربما لو جلسوا على مكاتبنا لخربوها مثلما تخرب الفتيات السيارات الفارهة ..

يقول النبي محمد -ص- :"فضل العالم على العابد كفضل الشمس على القمر وسائر الكواكب" أعتقد أن هذا الحديث الشريف يمثل ما أتمسك به من قيمة في مواجهة أطباء الجراحة والمهندسين والحرفيين وقادة المظاهرات الذين لايفقهون شيئا في هذه الحياة وأعذاء مجلس الشعب الذين أصبحوا مثل لاعبي كرة القدم المحترفين ولا يفقهون شيئا مثلهم مثل ربات البييوت الاتي انتخبنهم وتضمهم الأحزاب لعضويتها لمجرد ضمان نسبة تثيلية أكبر تستطيع من خلالها تنفيذ أجنداتها التي كتبت في غرف مكيفة بواسطة منظريهم ..

إلا إنني  أقول أنه ليس من حق أحد إدعاء فضل على الآخر فنحن نعمل ما نجيده وكل ميسر لما خلق له ونحتاج الغبي قبل الذكي والمندفع قبل المتروي وذا اليد المتسخة قبل ذي اليد الناعمة ..

Followers

Featured Posts