رأي بسيط في الحاكمية

بسم الله  ..
في الحقيقة تصور السلفيين -وهم التيار الفكري الأساسي بين صفوف الإسلام السياسي- عن حاكمية الله عجيب ومخجل وبه نوع من الرومانسية الساذجة أو المزايدة بالدين في طلب السلطة .. نعم يا صديقي كل هذه التهم في عبارة واحدة .


فهي تقتطع الآيات القرآنية من سياقها ثم تأخذها على ظاهرها ثم تقول أمور مسلم بها مثل "السيادة لله" ثم تقحم هذه "السيادة لله" في صراع مادي على منصب أو كرسي خشب ..
في نظري الحاكمية نظرية قائمة على عدم اعتراف من ابتدعها بحرية العقيدة  سواء في اختيار الدين أو داخل الدين .. وكم من التجاوز لهذه النقطة في أدبيات الإسلام السياسي لهذه النقطة .. كما أنها ليست مما يظهر لنا من أركان الإسلام المنصوص عليها في حديث الرسول ص الشهير ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله و إقام الصلاة , وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ) متفق عليه أخرجه البخاري ولا من أركان الإيمان في الحديث الشهير الذي رواه مسلم نْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ , وَمَلائِكَتِهِ , وَرُسُلِهِ , وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ" 

وبدون أن أدخل في علوم العقيدة سوف أشرع مباشرة في مناقشة مايهم واقعنا .. وهل فعلا "إن الحكم إلا لله" التي يقولها السلفيين والإخوان في طلب السلطة هي "إن الحكم إلا لله" التي يقصدها القرآن ؟
 وردت إن الحكم إلا لله في سورة يوسف مرتين  الأولى:
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
يوسف40

وكانت تعقيب من سيدنا يوسف على كلامه مع رفيقيه في السجن وعلى عبادتهما لغير الله ولو كان سيدنا يوسف يقصد بها اعتراضه على نظام الحكم في مصر لكان رفض أن يكون جزء من نظامها السياسي بعد أن خرج من مصر وبخاصة أن القرآن لم يخبرنا عن دور دعوي لسيدنا يوسف أو عن خلاف سياسي مع عزيز مصر  ..
 وذكرت المرة الثانية في :
قَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ يوسف 67

وهي في وصية سيدنا يعقوب لأولاده  وهو يوصي أبناءه بالحذر عند خول مصر ويقولها معقبا وواضح من السياق أنه يقصد أن القضاء والقدر كله بأمر الله وأن لا راد لحكم الله ..
إذا العبارة  تتحدث عن توحيد "عبادة" الله في الآية الأولى وعن "القضاء والقدر" في الآية الثانية وهما شأنان لا دخل لهما بأي صراع سياسي دار في قصة سيدنا يوسف كما أنها موضع اتفاق من كل المسلمين والإختلاف عليهما حق منحه الله للإنسان طالما أن هناك بعث ونشر وحساب وجنة ونار ..

*****************

في الحقيقة -وكما فهمنا مما سبق- أننا عندما نقول "إن الحكم إلا لله" فإنا نعني أن كل الوجود وما علمنا وما لم نعلم في قبضة الله  وهذا مسلم به عندنا كمسلمين .. لكن الصيغة التي يتم بها تناقل هذه العبارة القرآنية تعني وكأن هناك من يبحث عن حق الله في حكم بلد ما وكأن -والعياذ بالله- الله عاجز عن إتيان حقه -تعالى الله-  أو أن الله الذي خلق هذا الكون طرف في نزاع على سلطة مادية حقيرة ولهذا أرى أن إقحام هذه الآية القرآنية إهانة أو إزدراء -كما هو شائع اليوم- للذات الإلهية مالم تكن استخفاف بعقل المتلقي .. 


******************

في الحقيقة عندما يصل الجدل العلماني-الإسلامي إلى ذروته يكون الخلاف هو مصدر التشريع ويكون التشريع هو المقصود بفكرة حاكمية الله -وهذا لا ينفي عنها التهم التي ذكرتها سابقا-  ..
أود ان أذكر ثلاثة مبادئ يبدون لي كمسلمات ..
الأول: أن غاية التشريع الإسلامي هي العدل. طبقا لقول إبن القيم  "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط. وهو الأساس الذي قام عليه ملكوت السماوات والأرض. فأينما كان العدل فثم شرع الله ودينه وإن لم ينزل به وحي أو ينطق به رسول".

الثاني: أن جوهر العدل المساواة وليس غلظة العقوبة أو لينها .
الثالث: أن لا مفر من الخلافات الفقهية ..

هنا أنا سوف أدافع عن التشريعات الوضعية
يقول الله عزل وجل :
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]
أي أن المؤمن الحق هو الذي يلجأ إلى ما في القرآن والسنة من تشريعات ..
حسنا .. ضع بجوار الآية السابقة الآيات التالية :
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) . الكهف 29
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99]
{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة:256)


إذن لايمكن إجبار أحد بشكل ما على الإيمان وبالتالي التقاضي أمام تشريع معين إجبارا .. حتى ولو كان يدين بنفس الدين الذي جاء منه التشريع ..
لابد إذا من خلق أسلوب للتوافق بين الناس والناس وبين الناس وحكامهم حول ما التشريع الذي سنتقاضى أمامه .. هنا تنشأ فكرة العقد الإجتماعي .. العقد الذي يتجسد في الدستور والقانون .. وهما مجهود بشري  بحت  يقول الله عز وجل :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}النساء
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} المائدة

ويقول الرسول ص في حديث آخر:
" الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالا ، وَأَحَلَّ حَرَامًا , وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إِلا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلالا " .
أي أن العقود -العقد الإجتماعي- -التشريع الوضعي- ليست حراما على مالم تحرم حلال أو تحل حراما وطالما حققت العدل بين الناس بخاصة أن  القرآن والسنة لم يغطوا كل جوانب الحياة في تشريعهما وأن رسول الله قال :
ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }.
أي أن ما يتشدق به الكثيرون عن كفر هذا المذهب وهذه الأيديولوجية يقع في منطقة العفو كما أن الإصرار على تطبيق نظام ما أو تشريع ما يهدد السلم الإجتماعي ووحدة البلاد مثلما حدث في السودان وحيث أن الصراع على السلطة أو إدارة البلاد هو من الأمور المادية أو الدنيوية يقول الرسول ص في حدث تأبير النخل الشهير " أنت أعلم بشؤون دنياكم" وكأنه يرسل لنا رسالة مفادها لا تلتفوا لمن يتحدث بإسمي طالبا منصب أو جاه فأنتم أعلم بشؤون دنياكم ..


 ********************

في النهاية أتركك صديقي القارئ مع حديث بريدة عن رسول الله حيث قال في حديث طويل :
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ ................. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لا. رواه مسلم (9/150).

حيث يخبر الرسول أن الأحكام التي نسير بها دنيانا وشؤوننا المادية يجب أن تصدر باسم الشعب أو أي شخص آخر لا بإسم الله ورسوله لئلا رجعنا فيها فنسئ إلى الله ورسوله  وأن إعمال العقل خير من السير وراء تفسير مشوه لنص قرآني أو حديث شريف ..


والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Followers

Featured Posts